Hi, it's me again, back!
صمت رهيب. تقطعة مناجاة
دافئة غاضبة لحنجرة جبلية , تشجي آهات و موواويل تختلج الهواء البارد للمسرح
رنينا, تدوي رهبة كقطرات ماء تجهر في بئر من الفخار. تلحقها صقفات كفوف حامية في إيقاع
متسارع .. تتكاثر وتتصاخب مفسحة له دائرة أكبر من مركز المسرح.
يرفع رأسة لأعلى في حركة
فجائية سريعة تسفر عن وجه صارم حاد القسمات , مغمض العينين منتصب الظهر. يسحب يدية
في لفات دائرية خفيفة ناعمة , يرتفع بهم رويدا مع بداية دبدبة قدمية. كعبا تلو كعب
.. خفقة تلو أخرى .. حتى ترتفع يديه وتطوي السماء في لفة وتفلتها كأنما يصارع
ثيران غضبه قبل أن تستقر كفيه في رشاقة على أطراف الصديري الأسود. وتميل رأسه
لأسفل في اتجاه أقصى أركان المسرح يمينا كأنما يتأمل وجعا مضى وانزوى , مفسحا
الفضاء لتراتيل جيتار إسباني قديم لتخرج من بين أوتاره مغلفة برَخَامة صندوقه
العتيق. عزف منفرد تؤمن عليه جيتارات مصاحبة ترتكن أقاصي المسرح.
تُنطَر ساقة المشدودة
يسارا ساحبة جسده كله في نعومة تدور بعوده حتى يستقر بضربة قوية للأرض الخشبية
فارضة إيقاع جديد. تعقبها ضربة في دبة في أثنتين في ثلاثة في أربع إلى حيث يصعب
المتابعة والعد. تتسارع الخبطات وتشتد قوتها حتى ينفض خشب أرضية المسرح ذرات تراب
مخفية ادخرها دفئا وأمنا من الزمان وفضحتها أشعة الكلوبات الملونة المصوبة عليه , وحتى
تغطي على كل صوت سواها؛ ضربات قلبه الغاضبة كأنما تقود الإيقاع . أمطار العرق
تنهمر من خصلات شعره الماجنة وتتناثر قطراتها في مدارات تلف مع حركة رأسة حول جسده
المنتفض.
ضربات تستثير الحنجرة
الجبلية لتعاود آهاتها وتروي قهر تاريخ منسحق , وألما منسيّ عبر أجيال , تجسد حزن
دموع دهر ملحّت مياه الأنهار , وتخلّد ذكرى ماض سحيق وتصرخ بألم أطياف حاضر مازال
ينزف.
يدبدب .. دبدبات سريعة ..
قوة ضاربة مدوية الصوت .
تختمها صرخة حادة فاصلة
قاطعة في ذروة الانتشاء..
أوليه !
" قتلك جنوني.. قدَرِك
وقدَري .. سيبتيني لغضبي بيقتلني يوم بعد يوم " , وعينيها
طيفا أمامه.. يتراءها تناديه نحو الأعمق.
عندما يتحول الحزن..
لقهر.. لغضب ..
لرقصة .. مع الحياة.
أصفق بحرارة حتى تنصهر
يدي.
******************************
تكاد تلمس أنامله ظهرها
العاري.. يكاد يعلن أنها له وحده , الآن هو أنسب وقت , فأي لحظة يمكن أن تكون أفضل
من رقصة ثنائية .. هو وهي فقط , رغم بعض المجاميع التي ارتدى بعضها زي عساكر مسلحة
وآخر أزياء منتصف خميسينيات القرن العشرين
تناثرت في مؤخرة المسرح الذي اتشح بخلفيات بيوت قديمة صغيرة متراصة في بوينس آيرس.
يباغتها بخطوات سريعة
متقدمة تقتحم صمتها وجمودها المصطنع, ويحاورها بنظرات مباشرة من عينيه تمتصها بكليتها
التي تراخت أمام قيادته, ما كان لها سوى مجاراة هجوم خطواته بخطواتها المتراجعة
المندحرة بنفس الإيقاع.
"مش عايزه تعترفي
بحبي لكي ليه.. حبي اللي انت أمه .. أنا متأكد انه بينمو في قلبك بعد ما ارتوى
ببذر شوقي .. بتنكري حبنا ليه؟ قد كده أنا هنت عليكي .. لحد امتى هتهربي .. ولفين
هتروحي "
ثم يلف بجزعها ويحملها
مرتكزة على ذراعه بمنتهى السيطرة والاقتدار , تكاد تطير وتحلق في الهواء للحظات
يرفرف فيها ذيل فستانها الأحمر القصير قبل أن يرسو بها وقد ظللها بصدره المنحني
قبالها , ناهما من رحيق عطرها, مغدقا عليها بنظراته الناهمة بعد أن انزلقت بكيانها
أسفله.. دون أن يلفتها من يديه.
تقف في لمح البصر ,
وتستدير بجسدها في خطوات حثيثة صغيرة من ساقها التي اعتلت ذاك الكعب الأسود العالي,
تبتعد عنه في إلتواءات مبتسرة , يمينا ويسارا , ونظرات اليأس والهروب تنزلق من
رموشها السوداء الطويلة الكثيفة وتتبعثر في طريقها إلى الأرض , محاولة الإفلات دون
بعض عقلات أصابعها التي استندت على قبضة يديه القوية.
"حبنا
مستحيل."
يسارعها بخطوات واسعة , محكما
قبضته على يديها الرقيقتين رافضا أن يفلتها , حتى يعود قبالتها قبل أن تدرك ,
ويعود بها إلى صدره حيث تستقر .. دون التلامس.
" لو بيني وبينك
ألف سور وألف حظر وقوات الأرض .. عمرهم ما هيفرقوني عنِّك .. انت رقصتي مع
الدنيا.. بيكي بأقدر أشوفها حلوة.. وأحسها في عروقي"
تعاود وتقاربه .. تستنفر
نغمات التانجو ثوراتها ,تصارحه بخطواتها الصريحة تجاهه , دون تردد , ترمقه
بنظراتها الغاضبة , تندفع بسيقانها تحيط وسطه تارة , وتتخلله تارة, عن يمينه وعن
يساره , لا تترك له منفذ.
"انا وأنتَ! ..
القصة مش مجرد قصة حب .. ما انتَ عارف إني بحبك .. سيبتني ليه في عز ما كنت
محتاجالك؟ "
يجاريها في هجماتها ,
يتجاوب معها, يتراجع أمام خطواتها , ومعها .. يستلذها.
"سامحيني .. عارف
إني ظلمتك كتير .. وعارف إني مش هأهون عليكي.. مش
هيهون عليكي احنا .. نور وهشام اللي مافيش زيهم .. الي روحهم بتنور وهما مع
بعض .. عارف إنك هتسامحيني .. محدش بيفضل مخاصم روحه. "
ينحني بكامله مرتكزا على
ركبه ساحبا احدى ساقيه بنعومة وروية إلى الوراء , يبنما تفرد ذراعها وتفعل مثله في
الإتجاه المعاكس , يتباعدا وإن ظلت أيديهما متصلة ببعض يحيث يمتد اتصال عروقهما
التي انتفضت مع تسارع الموسيقى والخطوات.
"تاني يا هشام ..
تاني ؟ أنا تعبت ! .. افهم بقى ..حس بيا "
يتحسسها في رشاقة, تترقرق
الموسيقى في سحبات طويلة ناعمة للأكورديون والتشيللو كخطواتهما والتفاتاتهما
المتناغمة. يضمها إليه حتى التماس , وتتطابق خطواتهما سويا في تناغم مدهش , يجوبا
المسرح ذهابا وايابا وقد صار العالم.
"بحبِك "
يرتفع بها وهي تستعرض
مهاراتها في حركات بهلاونية مقتطفة , تمر في نعومة حول جسده كله وتلتف حوله كحية
ملساء , تباركه بسُمِّها عبر لدغات قدميها السريعه لكل بقاعه , يتوقف هنيهة في
استسلام ليسمح لجسدها بالانزلاق رأسيا عليه وهو يتعقبها بنظراته حتى كادت تلامس
الأرض , فيرفعها إليه.
تنظر مباشرة في عينيه ....
تلمح تلك النظرة التي تعرفها جيدا , تشعر بحمم دمه تتدفق مخترقة سترتة السوداء
الحريرية.
يصخب الأكورديون وتزداد
حدة نغماته , وتتسارع مشاوير القوس على الفيولينة حتى تكاد أوتارها المشدودة تنحل,
وتدخل الآلات في صراع موسيقي متصاعد مع تصاعد التوتر بينهما , الذي انفجر في
ركلاتهما المتلاحقة السريعة في الهواء , المتبادلة تارة والمتداخلة تارة حول
خصريهما , مع صعودهما وهبوطهما المتقابل المتعاقب في ندية وتحدي.
تحاول الدوران بجسدها
بعيدا .. يلاحقها في تزامن مدهش كأنه يقرأ خواطرها.
" في ايه بينك
وبينه .. أنا مش مغفل .. انتِ بتلعبي بيا !!!! "
يزأر التشيللو , ويعلن الأوكتاف
الأول للبيانو عن غضبه , تتقطعها نغمات الفيولينة الحادة تؤازرها تنهيدات عميقة من
الأكورديون بينما تسرد أشعارها. ينهض سريعا منتفضا جاذبا لها بقوة وخشونة , وتدور
في لفات متلهفة شوقا إلى ضمته ..وذعرا , ثم تدور في حركات سريعة مرتكزة على جسدة
محلقة في محاولة أخيرة للهروب ولكنها ترسو
بين مباغتات خطواته السريعة , وحركاته المسيطرة , التي حاولت التواؤم معها ومجاراة
جموحه , بينما يبدو عليها آثار الإنهاك تماما مثلما تبدو عليه ملامح الشهوة واشتداد
قبضات التملُك وقد استحوذت عليه.
"انتَ مجنون
!".
******************************
قدمه ثابتة .. لا تتحرك
أبعد من خطوة أو خطوطين بما يسمح له بالدوران حول محوره .. لساعات .. ويظل في
مكانه محلك سِر.
يلف صديريه المزخرش الملون
بإحكام شديد حول أعلى جسده فوق جلباب أبيض كتان , يضيق بصدره أكثر من ضيقه بما ضمّ
من قلب مكلوم , وندَمْ , يُثقل عليه بأثقل مما يحمل حول خصره من تنورات كتانية
مشغولة بكل الألوان والحروف , يحملها صُحٌفا أثقالا بكل ما فيها من كلمات وأيام وحوادث
جسام , بكل ما فيها من ذنوب وآثام , يلتف بها طبقات فوق طبقات .يضم صدره بذراعيه
ويحتويهما شفقة وحصنا .. ويدور.
يدور في بطء وثبات حذر
ثقيل على دقات دفوف منتظمة تبدأ كقرع صيات الذنب على جسد محموم .. بلا رحمة, بحثا
عن خلاصٍ فرارا من خطايا غير مُعرَّفة.
كم توسوس له قدمه بالشرود
.. كأن تتعلثم في فيض كلمات روحه .. وصرخات عواطفه , أوتتعرقل مع سرعة الدوران
التي لا غاية لها سوى أن تصرع جسدا مثقلا كمن كان وألا تتركه إلا ملتصقا وممرمغا في
الطين .
يدور. . ويدور .. ثم يدور.. قائم الرأس بزاوية
صفريه حول محور عمامته البيضاء الملفوفة راقّات بعناية وفن بأربع لفات يتدلى طرفها
حتى ظهره , مغمض العينين مفتوح الآذان مع الموسيقى الصوفية والابتهالات , يشتد
دورانه بها تاركا كل معنى يرسم له طريقا للإله , وكل مديحة ترسم له درجة للصعود ..
يعلو السلم درجه مع كل إبتهال .. وتتفتح كفيه وتتباعد ذراعيه مرحبة بالبدايات .. ببتسم
ويزيد في الدوران .. حتى يكاد يرى الطريق وسط الظلام , وتفسح ذراعاه للكون مداها
وتمتد حتى الأطراف داعية النور ليتخلخل
روحه يغويها ويتجاذبها بلطف خارج المكان , وتميل رأسه وتتمايل طمعا تجاه السحاب , علّ
قدمه يسلبها شوقها الأبدي للطيران ولو للحظات ..
يا حبيبي يا رسول الله ..
يا شفيعي يا رسول الله
ذُبتُ شوقا .. يا الله ..
يا الله
يا نور النبي .. يا جمال
النبي .. والله والله ما لنا غير النبي
يلف ويلف ويلف وتتدروش
رأسه يمينا ويسارا انتشاءا .. تميل مع ميلة الأرض والقمر والسماء.. اتسق دوران
قدميه مع إيقاع الدفوف ونبض التواشيح وتسابيح الخلق ..خلاص انجَذَب. تتناغم يديه
في دوائر ومنحنيات هائمة كأنها تراقص الروح وتسعد بلُقياها , تضم إليها نفحات
الفرحة ما أمكنها , ويدور. يتنشي , ينفرج ثغره ليستقبل الفتح , يكاد يعلو
مع العمه التي طارت وسقطت بعيدا .. وتتصاعد التنورة بعد أن صارت ألوانها أطياف نور
ذابت في طياتها المعالم والتفاصيل .. الأحمر , والأخضر, البرتقالي , والأزرق ,
الذهبي ..كل الألوان صارت شعاع النور . تتكاثر طبقات تُشلح طبقة بعد طبقة تتطاير
أطباقا دائرة في السماء. يتخفف من حمل تلو حمل .. همّا بعد هَمْ .. ذنب وراء ذنب
في سرعة وخفة وإنطلاق مع إنطلاق صيحات الجماهير إستثارة وانبهار, ويدور..
" مش قادر أسامح
نفسي أبدا على اللي عملته فيها , أنسى
إزاي إن غضبي هو اللي ضيّعها .. وضيَّعني معاها .. خنت روحي .. وقتلتها
بنفسي."
تتعالى دقات الدفوف
وتتسارع الخطوات وترتفع الأيادي بدفوفها إلى السماء , وتنفرد آهات المنشدين ..فيرقص
مفتوح العينين .. لا يرى ما كان يرى .. لا يرى ما نرى .. لا يرى سوى ما أسفرت عنه
ستائر الروح , طبقة بعد طبقة, تنورة بعد أخرى.
" السماااااااااااااااااااااح
!"
ثم تختتم الرقصة مع تجرده
من كله ما سوى الجلباب.
يرقص ويتحرك .. فيتجرد
ويتحرر .
حتى وإن انحنى تحية لجمهور
سكارى في ملهى عبث.
**************************************
-" خير يا دكتور .. ايه اللي حصل .. أنا آخر حاجه فاكرها
اني شفت فجأة اللوري , العداد كان160 , ولما حاولت اتفادى اللوري العربية اتزحلقت
مني .. فاكر العربية اتقلبت كام مره ..
ونور كان رأسها غرقان دم .. نور ..
نور فين .. نور فين ؟ "
-"الحمد لله اللي نجاك من حادثة زي دي .. انت اتكتبلك عمر جديد .. حاول ترتاح شويه .. "
نور فين .. نور فين ؟ "
-"الحمد لله اللي نجاك من حادثة زي دي .. انت اتكتبلك عمر جديد .. حاول ترتاح شويه .. "
- "نور.. فين نور ؟؟ "
-"مش عارف أقول لك
ايه .. للأسف...
البقية في حياتك .. نور ماتت يا هشام"
البقية في حياتك .. نور ماتت يا هشام"
**************************************
لم يبق لي سوى الاستمرار
خيار. بعد أن صار لي حياة. وصار هذا واقعي.
أصفق وأصفق .. لعرض بعد
عرض ورقصة بعد رقصة.. وأذوب. أتحمس وأنتشي لكل حركة وحركة .. أطير معها وأتنطط بها
.. من زمن لزمن ومن أرض لأرض .. أسجل كل صوت وصوت .. أدون كل تفصيلة .. كل ما يرقصون .. وكل ما أشعر.
غضب .. عنف .. قهر.. حزن
..ندم ... تناغم .. شوق .. رقة .. رشاقة .. خفة .. فرح .. نشوة .. قفزة .. طيران
.. حرية !
أسطر أحاسيسهم بقلم على ورق. أنشرها تماما كما أعيشها
وأتكتمها في كل دفعة لعجلات كرسي التصق بجسدي وأصبحنا كتلة واحدة ومصير واحد.
أراقص أحاسيسهم كما أراقص
أطياف كلماتي مع نور.. ما قلته لها .. وما لم تسمعه.
هكذا أحيا .. دنياي ..
رقصة فرقصة.
ترقص؟
No comments:
Post a Comment