Tuesday, March 18, 2014

ستر وغطاء

Hi, it's me again, back!


كان شعور من اللامبالاة , ذلك الذي استقبلتني به يداها الهزيلة المرتعشة , بعد أن توقفت سيارة مرسيدس سوداء  على جانب الطريق , انفصلت عن موكب اتشح بالسواد عائدا من صوان رؤوف بيه , ليقذف بي أحمد إلى تلك المجذوبة الشريدة ..دون وداع.
ربما  كانت نفسها اللامبالاة التي ظلت تسِمُ علاقتي بها , أوهكذا بدا لي في أول الأمر؛ فهي لم تكن تبالي بلفيح صيف أو صقيع شتاء , ولا بتبدل ليل بنهار. كانت ترتديني في جميع الأوقات , فجميع الحالات لديها سوَاء ..عُري.
 ربما تأرجحت بين شفقة في حين وكراهية في حين آخر .. وتعَوُّد في أغلب الأحيان. كانت لي قدرا مكتوب في آخر محطات رحلتي .. وربما أواخر أيامها.
كانت تتدثر فيّ وتحرص على عقد أزراري _وإن كانت تعقدهم بلا منطق ولا ترتيب , لتداري تلك الهلاهيل والخِرَق المتناثرة على جسدها الذي صبغته أتربة الشوارع وغبار المدينة المزدحمة ساترا تحت ستار. رافقتُها غطاءا للحم مريض يأوي دم فقير .. بلا مناعة.
أخذتني معها , , ملازما لها , أشاهد تضاؤل جسدها بداخلي يوما بعد يوم , رفيقا لها في دُرُب الفقر والمرض والضياع بلا وعي .. في رحلة انتظار الموت.
تُرى هل تذكُرني تلك الرفيقة الشعثاء رثة المظهر , تلك المرأة ذات الأربع وثلاثين عام المشردة بين الطرقات بلا مأوى غير أسافل الكباري وأنا..
معطف أسود قديم.

***

كانت هي تلك الشابة الجميلة آنذاك , التي رأيتها تهرع إليّ في تلك الليلة وجسدها الغض ينتفض عرقا غزيرا, وكنت ليلتها ملقى بإهمال على كرسي في أحد أطراف الغرفة الشبة مظلمة ..أشاهد كل شيء.
ما إن لمحتني عيناها الزائغتين حتى فتشتني في اضطراب واضح بحثا عن علبة سجائر. خطَفَت عُقبا , وقلبتني  رأسا على عقب حتى وجدت ولاعة رؤوف بيه الذهبية المنقوشة بحروفه الاولية , تأمَلتَها قليلا وهمت بإخفاءها في حقيبتها الصغيرة بعد أن أشعلت السيجارة وأخذت تتنفسها في أنفاس نهمة طويلة بعدما ارتدتني وغطت بي جسدها العاري .. ذلك العُري الذي ما كانت لتكسوه ألاف الأمتار.
تلحفت بي مستندة على الأرض رغم تناثر كرسيين في الغرفة, ربما اتخذتهما ستارا عن وميض مصباح يتيم سطَّر لنفثات دخانها العابث تكتب نهايتهما , بينما دخلت هي في شرود عميق لم ينتهِ إلا بدموعها الحارة وقد أجهشت في بكاء شديد أمطر قطرات حارقة أوغرت ندبا على وبر كتفي.
ليتني كنت أسمع هواجس البشر وسرائرهم , ليتني كنت أستطيع معرفة فيمَ كانت تفكرأثناء شرودها, أو حتى فهمت سبب بكاءها الشديد الذي رجَّ كيانها داخل أروقتي الحريرية حتى ذاب ما تبقى من سيجارتها المعلقة بين عقلتيها المسنودتين على رأسها المُنكّس بين الدموع .. حتى غَفَتْ.

عاد رؤوف إليها حاملا زجاجة الويسكي وهي غافية..
"بخ! " أيقظها مازحا. "وكمان لابسة البالطو بتاعي .. ايه الشقاوة دي يا قطة ! " ضاحكا.
"هااات" . خطفت منه الزجاجة في خفة ولهفة , وسارعت بارتشاف جرعات متتالية من فم الزجاجة.
لم يبد على رؤوف بيه أي إندهاش أو استغراب من تصرفاتها , لم يبال , فقد كانت أول وآخرمعرفته بالساقطات , في نزوة جنون وغرور.
"عشان تبقى تقول لي لأ .. خليها مرمية عند أبوها شهر وأثنين وثلاثة ولا هأعبَّرها .. هي فاكرة نفسها هتلوي دراعي .. دا أنا رؤوف الشستاوي ! "  صرخها كالممسوس وقد أشعل السكر رأسه.

***

بدأت رحلتي الطويلة مع هذه العائلة بالشستاوي الأب. كان أول يد تشتريني , كان أول من أدرك أنه بحاجة إلى بكر بهائي الذي تم تصميمه للرجال ذي الشأن , رجال السطوة والمال. كنت رداء الهيبة والنفوذ لأي رجل أعمال طموح. تزامنت عشرتنا – أنا ورؤوف – مع بداية تأسيسه لأولى شركات المجموعة التي صارت إمبراطورية الشستاوي للسيراميك والأدوات الصحية فيما بعد.
يمكنك القول أنني كنت الشاهد على رحلة صعود رؤوف ابن الحاج عمر الشستاوي صاحب محل الأدوات الصحية المتواضع في أسواق الفجالة . كنت الوحيد الذي يدون لحظة انتشائه بعد صرف كل شيك , فبعد كل صفقة ناجحة , بدَأَتْ كعمليات وضربات كبيرة حتى صارت مع الوقت "روتين" في تجارته, كان يعشق أن يُتَّم بنفسه عمليات صرف الشيكات والتحويلات, كان يهوى تستيف الرُزَم في حقيبته السامسونايت , وكان يختص جيبي الأيمن مهجعا لرُزمتين أيّا كانت وحدتهم , ليأتنس بدفئ أمانها ويتلمس سطوة أوراقها الحادة طوال الطريق. كنت أشهد نفخة صدره وهو يملأ كفيه بأوراقها ويغدقها على من حوله مبتهجا بفرحتهم

ودعواتهم له بالستر والصحة , متلذذا بإنبهارهم بصعوده ونجاحه .. إلا الدكتورة زينب بنت الأصول .. زوجته المصون التي ما كانت ليبهرها شئ .
ظللنا هكذا حتى بنى رؤوف إمبراطوريته  رزمة فوق رزمة, طابق تلو طابق.
لكن هذا لم يكن كافيا لصنع أسطورة رؤوف الشستاوي , كان لابد من شهادة محترمة تعوّض تلك الهزات المتوترة لقدمه التي كانت تؤرِّق ثنايا حذاؤه الإيطالي , وطقطقة أصابعه المتقطعه كلما تواجد في محفل مناقشة لهؤلاء الإستشاريين أرباب الشهادات الأميريكية , كان لا يقبل أن يعلوه أحد في شركاته.
اجتهد في شراء درجة علمية مرموقة من أحد الجامعات الشهيرة. شَهِدتُ سعادته يوم استلامه مجموعة الكروت الجديدة , بعدما ألبس اسمه ثلاث حروف جديدة طُبعت تحت اسمه تماما فوق شعار مجموعته التجارية. كان دوما ما يدفس في جيبي الصغير الداخلي مجموعة من تلك الكروت , يفرقها في أيما محفل جديد.
كانت عشرتنا طويلة وقصصنا كثيرة .. أنا و رؤوف بيه حتى ذاك اليوم بالذات.

***
كنا نتنفس هؤاءنا  الخاص , هواء نظيف معطر غير هواء الشارع الساخن الذي يلفح المارة بما ازدحم به من عرق وعوادم ونتِن القمامة , هواءنا يخرج ناعما من فتحات تكييف مرسيدس ألمانية قوية , حتى ظننته السبب في تحجر الدموع في مقلتي رؤوف بيه طوال الطريق من معمل التحاليل للشركة , في أول ليلة ينام فيها على أريكة مكتبه ملفوفا داخلي كالجنين.
كانت دموعه وهو ينظر لتلك الورقة دموع صدمة أكثر منها أي شيء آخر.. أكثر من الخوف من غدا لن يأتي وقد بدأ عده التنازلي .. وأكثر منها دموع خزي وندم أغرقني بها ليالي طوال منذئذ.. وأكثر من دموع الألم والشفقة على جسده المتداعي يوما بعد يوم , وقد انكشفت خلاياه عن حصونها وأصبح مرمَى لسهام خبيث الأمراض لتفتك به.
كانت تلك الورقة الملعونة داخل المظروف المغلق هي السبب .. ورقة لا تحوي سوى اسم المعمل , واسمه , و HIV-RNA :  POSITIVE *
والباقي لا يهم. كرمشها بشدة واعتصرها بقبضته كما اعتصرَتْ قلبه وألقى بها في جوفي.
سِرُّنا.
يجب ألا يعلم أحد.
***

أخذت الشمس في الأفول مفسحة الطريق لقحافل الليل تنشر برودتها القاسية في دروب جسده الفتيّ وقد شارف الرجولة بعامه التاسع عشر.
كنت قد دخلت وقتها بدايات هِرمي , وظهرت عليّ أثار العمر؛ أصاب الوبر صوفي الأصيل , وتغير لوني , لكن أحمد اصطفاني لأكون بجانبه في ذلك اليوم. تحصن بي "الصغير" لصد غارات البرد الشرسة .. برد الحزن.
كنا داخل السيارة المرسيدس السوداء في طريق عودتنا من دفنة أبيه رؤوف بيه الله يرحمه, بعد أن وقف على غٌسله وتكفينه ودفنه, ونزل به بنفسه لقاع المقبرة قبل أن يهيل عليه التراب.
كان بحاجة لصوفي الناعم , ولقتامة ظلال لوني الأسود ليتدثر بها, فما كان من أحد أقرب إليه مني في تلك اللحظات , حاولت طمأنته بكل ما في وسعي بعدما استجار بي خوفا من فضح حقيقته التي لم يدركها سواي. احتضنت كله بكلي وحاولت الزود دون مسام جسده التي أخذت تتشرب رطوبة الخوف من غد صار فيه العائل والوتد لعائلة وإمبراطورية كان لتوِّه طفلها المدلل ذى الشوارب , يمرح بمداعبة إخوته البنات له , وحنان  أمه وتدليلها له , وإغداق أبيه عليه بالنصح والدعم.
أخذت هواجس الموت , والهم , وذكريات مرض أبيه  وآخر أيامه في المستشفى تعصف بعقله الصبي طوال الطريق إلى بيت العائلة. شَعَربالعُري الفجائي بعد موت رؤوف بيه , وجد نفسه عاريا من السند والدعم , عاريا من الحكمة والخبرة .. عاريا من اي حقيقة يركن إليها. كان دوما ما يستتر وراء ستار المرح , مزحاته وتهريجاته التهكمية التي لم يكن لها مجال اليوم.
حاولت امتصاص رجفاته المرتعدة التي كانت لتفضح رجل العائلة الجديد ووريث الإمبراطورية, امتصصتها واحدة تلو الأخرى بين طياتي الحريرية وأخفيتها وراء سُمكي المهيب.
أصبَحتْ سِرُّنا الصغير , وأصبحتُ أنا ذكراه عن يوم كئيب لا يمكن نسيانه , وإن حاول.
كان عليه أن يتخلص مني .. يتخلص من ذكرياته وحقيقة مشاعره في ذلك اليوم , بخلاف ما أبدينا من صورة أمام الجميع.
كان يجب ألا يعلم أحد.

***

اليوم وقد هرمَت هي ولم تبلغ منتصف ثلاثينياتها, بعد عشرتنا القصيرة من البهدلة في الشوارع بين خَرَفها الصارخ وصمتها التائه , بعد أن دخنت سيجارة تسوَّلتها من أحد الجالسين على القهوة , سارت بي في خطواتها الشريدة التائهة وأخذت تقصّ عليّ و تفشي لي أسرار تلك الليلة.
"انت البالطو بتاع الجدع إياه اللي كان كاتب اسمه عالولاعة الدهب , هو بالذات مش قادره أنساه , كانت ضحكته حلوة. وقتها كنت محتاجه للفلوس قوي , دُورت استلف من طوب الأرض ومحدش رضي يسفني جنيه.. كنت تعبانة قوي وحاسه بوجع في كل جسمي .. كان قلبي حاسس ان النوبة دي مش زي أي برد شديد ولا تعب حسيت به قبل كده .. كنت عارفه أنه هايصيبني بَلا يخَلَّص اللي فات واللي جايّ.
كنت محتاجه فلوس كتيرتوديني لدكتور كبير وشاطر.. فلوس أعمل بيها التحاليل اللي قال لي عليها الموكوس اللي رحت له في المستشفى الأميري وقَلَبني في كلمتين في خمس دقائق سمَّ بهم بدني .. وأنا اللي كنت فاكراه دكتورصغير ومش فاهم حاجه.
نزلت الشغل تاني , وكان الجدع صاحب الولاعة الدهب أول زبون .. تصدقني لو قلت لك أنه كان صعبان عليا .. حسيته طيب وكريم .. بس الفلوس كانت أهم من أي شيء .. كانت نار والعة في دماغي وكنت محتاجه يرسى لي بال .. أه خفت عليه وقلقَّت من الموضوع لا يكون كلام الدكتور صح وآخد الراجل معايا في الرجلين .. "
جذبتني بشدة حول صدرها .. نفسها تلك الجذبة في تلك الليلة من سنتين مضت .. بنفس الارتجافة تهز أركاني .. ولكنها اليوم ارتجافة ثقيلة مريضة .. بلا دموع.
"أيوه كنت عارفه. وما همّنيش. دايما مش فارقه."
"أنا كنت عايزه فلوس عشان ألحق أعيش .. لو كان فاضل لي سنه فحقي أني أعيشها زي البني آدمين .. مش كفاية سينيني اللي راحوا .. فِكرك يعني اني ما فكرتش ليلتها .. لأ فكرت كويس .. فيّا. واخترتني." , قالتها بحزم استغربْتُه ُوهي ممسكة بسكين تحكُ بها السيارات في الشارع.
ثم أسرعَتْ في خطاها كعرجاء مسعورة, تلهث أنفاسها , في نوبة جنون أعتدها خلال عشرتي معها, وواجهتني ,
" فاكرني ما إفتكرتكش .. لا .. أفتكرتك وافتكرته .. وعرفت انه سبقني ومات لما ابنه رماك لي."
تقطعت أنفاسها حتى كدت أسمعها تقرَع صدرها قرعا , وتوجَهَت لأقرب بقعة ظل تختبئ فيها , وتكهفت أسفل الكوبري ملاصقة سقف مطلعه , وبعد صمت طويل , تساءلت بصوت أثار عاطفتي تجاهها,
"تفتكر إني مش قرفانة منك .. ولا من نفسي ؟ .. أنا كل ثانية ببقى نِفسي أرميك في أقرب نار قايده وأخلص منك "
"بس عمري ما هأعتقك غير لما أموت. أنا بردانه. أنا عريانه" . قالتها بصوت جاف أجش يكاد يكون مسموع , وقد انكمشت بداخلي, وضمَّت ركبها إلى صدرها حتى التصقتا به.

تسمرت عيناها على أسفلت الشارع المتآكل , وبجمود الأموات .. صارحتني.      
"يمكن أكون قتلته .. وقتلت غيره .. زي ما غيره قتلني ..يمكن. بس مين يقدر يثبت !.. مين يعرف !
لو قطة هرسها عَجَل سكران وماتت ..آخرها هتنزاح جتتها المتفرتكة على جنب وخلاص .. لو أنا دمي سال في الشارع ..برضه هنزاح على جنب وخلاص .. تحت أي كوبري  .. مش فارقه كتير.. كنت قاتل ولا منت قتيل .. مش فارقه.. طول ما ماحدش عارف حاجه..
المهم ماحدش يعرف حاجه ..
هو ده المهم ."


***





         

No comments:

Post a Comment