Friday, March 9, 2012

الحقيقة ..اسمها الوهم !


الوهم
"الأوهام حولك في كل مكان ..
و الحل الوحيد أمامك أن تكون سيد هذه الأوهام ..
و أن تصنعها بيدك ..

دنيانا غريبة .. و حياتنا مصنوعة من الوهم .
الواقع حولنا جامد ميت عديم المعنى .. و نحن الذين نعطيه المعنى و القيمة و الأهمية.. نجعله ينبض بالحياة ..
الكراسي و الأشجار و الحيوانات و النساء و الفواكه تظل أشياء لا معنى لها حتى نحبها و نشتهيها و نطلبها و نجري وراءها .. فتنبض بالأهمية و الحياة ..
المرأة تظل كمية مهملة .. تظل غير موجودة في حياتنا تماما .. حتى نحبها فتوجد .. و  تصبح شيئا مهما .. يسعدنا و يشقينا ..
نحن الذين نعطيها القيمة و الأهمية ثم نحبها .. و في الحقيقة نحب الوهم الذي خلقناه منها و لا نحبها في ذاتها ..
و نحن الذين نسبغ الخطر على الأشياء ثم نخاف منها و نجزع .. و في الحقيقة نفزع من الخطورة التي أسبغناها عليها .. و ليس منها في ذاتها لا شيء له قيمة في ذاته.. كل شيء زائل , و نحن الذين نعطيه قيمته و أهميته .. ثم نتألم و نتعذب من أجل هذه الأهمية المزعومة .
نفنى في الحب.. و الأشخاص الذين نفنى فيهم .. زائلون فانون بطبيعتهم .. و هذا أمر مضحك .. و لكنه لا يضحكنا .. و إنما يبكينا و يعذبنا. لأن غرضنا يلتبس علينا .. فنحب الأشخاص .. على حين أننا في الحقيقة نحب المعاني التي تصورناها في هؤلاء الأشخاص .
و نحن مساكين .. لأننا لا نجد في الحياة شيئا خالصا صافيا .. لا نجد معاني خالصة صافية .. المعاني دائما مزروعة في أشخاص .. والأوهام مزروعة في الحقائق .. و التصور مزروع في الواقع ..
و نحن أنفسنا مزروعون في أجسادنا ..
نحن نسيج غريب من الوهم و الحقيقة.. من الواقع و التصور .. من الوجود و الفناء ..
نحن الوهم الأكبر .. و العذاب الأكبر ..
و الفنان أكثرنا عذابا .. لأن الأوهام مادة حياته ..
و الخيالات .. و الأفكار .. و الأنغام .. هي متعته و مهنته و لقمته .. فهو يأكل من أعصابه و أحلامه ..
الراحة تقتله .. و الاستقرار يقتله .. و الواقع يقتله .. و الاطمئنان يقتله .. و الفضيلة بشكلها المألوف تقتله ..
الفضيلة عنده تنمو من الشك .. و كل القيم و الأفكار و المبادئ تنمو من الشك .. و تتطور و تأخذ أشكالا جديدة باستمرار ..
و عليه دائما أن يسبح في دوامة الشك .. ليبتكر و يجدد و يخلق .. و يرتفع فوق المألوف .
لي صديق فنان مرهف الأعصاب .. يعيش دائما في شك .. و قلق .. و أرق .. و ملل وخوف .. وحب .. عيناه زائغتان يسكنهما فزع غريب هادئ . و قلبه تعتصره هواجس خفية .. و حياته صراع لا ينتهي مع هذه الأشباح التي لا ذيل لها ولا رأس .. يحاول أن يتغلب عليها بالشاي و القهوة و السجائر والخمر والأقراص المسكنة .. و الإغراق في الكتب و الإغراق في السهرات .. و الإغراق في الناس .. و الضحك .. و الصياح .
وأحيانا ينجح و يفلت من هذا الحصار الداخلي الغريب و يخرج إلى الدنيا .. يلهو و يقفز ويرقص كالطفل  ..
وأحيانا يفشل فتجره الأشباح إلى ظلامها ويزوغ بصره و يبدو كالغريق الذي يغوص شيئا فشيئا في لجة عميقة ..
مشكلته أنه لا ينام .. يقضي ليالى بطولها مؤرقا لا يذوق النوم .. يصرخ و يتوسل أن أعطيه أقراصا منومة ..
و من عادتي أن أعطيه أقراصا من  النشا .. أقول له إنها أقراص شديدة المفعول .. و هي نفس الطريقة التي يستعملونها في عيادات الأمراض النفسية ..
و يبتلع الأقراص المزيفة .. و بعد دقائق أخرى يزحف النوم إلى عينيه .. ويروح في سبات عميق .. ليس بمفعول الأقراص .. و لكن بمفعول الوهم ..
إن مرضه وهم .. ودواءه وهم .. وهو نفسه وهم .. وكلنا أوهام .. أوهام .. تعسة .. كبيرة.


من كتاب   "الأحلام"   للدكتور مصطفى محمود – فصل   "الوهم" .

No comments:

Post a Comment