" الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك . الذي رأى مثل تلك القطة و نظر إلى عينيها و هي تسرق لن ينسى أبدا تلك النظرة التي ملؤها الإحساس بالذنب .
إن القطة و هي الحيوان الأعجم تشعر شعورا مبهما أنها ترتكب إثما .. فإذا لحقها العقاب و نالت ضربة على رأسها فإنها تغض من بصرها و تطأطئ رأسها و كأنها تدرك إدراكا مبهما أنها نالت ما تستحق .
هو إحساس بالفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق.. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
و القط إذ يتبرز ثم ينثني على ما فعل و يهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار. ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح و على المبادرة بستر هذا القبح" .
......................
" و نحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسؤلية .. ثم نشعر بالعبء في أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. و نشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ .
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف و البدائي و الطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون و النظام و أن هناك محاسبة .. و أن هناك عدالة .. و أن كل واحد فينا مطالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. و أن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا و من طبيعتنا ذاتها .
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط ".
...........................
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضا للنظام قهرأ كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن ينفي عنا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته.
أراد بذلك عدلا ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حكمتها و أسبابها و هي عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبدا .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها , و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولها ".
................................
" و لكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الاحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا و نتصرف على أساسه .. إن هناك نظاما محكما و قانونا و عدلا .
و نحن نطالب أنفسنا و نطالب غيرنا فطريا و غريزيا بهذا العدل .
و تحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل .
و نحارب لنرسي دعائم ذلك العدل .
و نموت في سبيل العدل.
و في النهاية لا نحقق أبدا ذلك العدل .
و هذا يعني أن سيتحقق بصورة ما لاشك فيه .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا و ضمائرنا طول الوقت .
و إذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة و لأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
و إلا لماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم و لماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلا .. لماذا نحرص و نشتعل غضبا على م لا وجود له ؟
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان : إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. و لأنه لا عدل في الدنيا.. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي .
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. و إن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غدا .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. و هو الصدق لانه وحي البداهة .
و البداهة و الفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش , و هي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود ".
هذه مقتطفات من الفصل الرابع " العدل الأزلي " من كتاب " رحلتي من الشك إلى الإيمان " للدكتور مصطفى محمود .
Related posts :
Who said life is fair
I believe
No comments:
Post a Comment