Tuesday, October 4, 2011

النظارة السوداء الملقاه على الأرض


Hi, it’s me again, back!
بينما يسير ليلا ..رآها ملقاه على الأرض .. أمام ذلك المبنى القلعة الأمنية الحصينة .. بكل حُراسه و عيونه و أسواره .. نظارة سوداء كبيرة مكسورة .
كان طبيبا .. و كانت لا تفارقه لضعف نَظَره .. كانت رفيقة وجهه و أكثر ما لازمه و التصق به , مضفية عليه هيبة و وقارا يليق به.. سهرت معه ليالي المذاكرة و الدراسة حتى حصل على امتياز الطب و الماجستيرو الزمالة , أخفت ضيقه و حنقه من عجرفة الدكاترة حتى يندوه ببعض الخبرة و العلم .. كما حجزت نظرات تعاطفه مع المرضى الغلابة لبؤس حالتهم و سخطة الشديد على أوضاع المستشفى و العلاج .. و حاشت عن عينيه أتربة المواصلات و عوادمها في رحلته اليومية من و إلى المستشفى بكل زحامها و لا آدميتها .. و التقطت لعينيه أجمل الصور لامرأته الجميلة و طفله الواعد .
كانت نظارته السوداء الكبيرة أوفى شاهد على اخلاصه و دأبه و صبره و مثابرته .. كان بقاءها معه طوال سنوات الكفاح و العمل خير برهان على رقته و دماثته الشديدة ..
 كان رجلا بسيطا أنيقا نظيفا طموحا .. دكتورمحترم يرتدي نظارة سوداء كبيرة .
تلك اليلة يذكرها جيدا .. هجموا ليلا .. أيقظت طَرَقَاتهم العنيفة من بالبيت مذعورين .. رأى أبيه يفتح لهم الباب مرتديا بنطال بيجامته و الفانلة و النظارة .. رآهم يخطفونه .. بغلظة وعنف .. وقف يشاهد وسط صرخات أمه باكيا عاجزا عن فهم شيء أو فعل شيء . حدث كل شيء سريعا و مباغتا . رأى نظارة أبية ملقاة على الأرض و قد دهستها أقدامهم .
تحطمت .
يجلس في مكان معزول رطب مكبل الأيدي و الأرجل إلى كرسي حديدي .. حافيا .. معصوب العينين .
ظل هكذا يوما أو ما يزيد .. فَقَدَ إحساسة بالزمن .. و بالنور .. و بالحركة و الحياة !
تركوه دون أي شيء .. دون علة أو سبب .. دون منطق يريح ذهنه.. تركوه مكبلا فريسة لهواجسه و مخاوفه .. تركوه لافكاره تفعل به ما أرادوا .. تتلذذ برعبه .
ماذا قال ؟ طوال الشهور الماضية ؟ من سمعه ؟ من وشى به ؟ من معهم ؟ هل عارض ؟ هل جهر ساعة بغضبه ؟هل الموضوع كله مجرد لبس أو خطأ غير مقصود ؟ حظ عثر ؟ هل مؤامرة حاكها أحد ضده ؟ ما المفروض الآن ؟ من يريدوه أن يؤيد أو يبايع ؟ لطالما عارض و رفض و لكنه لم يجهر , كان دائما "ماشي جنب الحيط " .. يائسا من السياسة و أحوالها غير مُبال , لم يهتم إلا بعلمه و مرضاه و بيته .. هل سيرجع يوما لبيته .. هل سيرى زوجته و ولده ثانية ؟ ما مصير ولده ؟ هل سيصبو يتيما أو مُطارَدا ؟ كم سيلبث هنا ؟ تحت أي تهمة ؟ و لأي سبب ؟ ماذا سيفعلوا به؟ .................. ؟؟؟
أحقا تفرق الأسباب أو العلل أو الحجج في مثل هذا البلد ؟ في ظل وجود هؤلاء ؟ في ظل وجود قانون يجُبّ كل القوانين و كل الحقوق ؟ في ظل سلطات تجُبّ الاجراءات ؟ هل حقا تهم الحقيقة ؟ هل يهم الصراخ ؟!!   
مرت الأيام .. و الشهور .. رجع أبيه .. لكنه أبدا لم يعود .
لطالما تساءل الابن عما حدث لأبيه , و بأي ذنب , و لأي سبب ؟  لكن ..
هل حقا تهم الأسباب ؟ هل تفرق ؟ في ظل هذا البلد ؟ في ظل تلك القوانين و الأجواء ؟ في ظل وجود مثل هؤلاء ؟  
لم تفارق تلك النظارة السوداء الكبيرة صورة أبيه المحفورة في ذهنه .. الصورة الأخيرة و الوحيدة التي أراد التمسك بها .
وقف طويلا أمامها متحجر الأعين .. ينظر للنظارة السوداء و يراه أمامه .. يريد أن يقبضها بيديه و يهرب بها بعيدا ..
أو يهرب منها. إلى الأبد .

No comments:

Post a Comment