Monday, November 18, 2013

صفصافة للبيع


Hi, it's me again, back!



غدا سيوقعون عقد البيع. فيلا صغيرة في منطقة متميزة بالزمالك, ثلاثة أدوار بحديقة , تبعد بضع منازل من شارع الجبلاية.
لا يتبق لي معها سوى أسبوعين حتى نتمم إجراءات البيع والعزال والإنتقال إلى شقة التجمع الخامس في منطقة "مقطوعة" في الصحراء الباردة؛ صحراء حتى وإن حاطتها بضع عمارات على جنبي شريط عريض من الأسفلت يمتد على مرمى البصرشمالا وجنوبا , صحراء حتى وإن حُقِنت رمالها بشجيرات فيكس مقتلعة حديثا بصفائحها من الصوب , مهما كثر عددها. الصحراء لا ينمو بها الصفصاف.
تبدأ أولى خطوط قصتي مع الصفصافة بإرثي من جدي ؛ إرثي من حكاياه عن والده الذي اشترى قطعة الأرض وقرر بناء بيتنا عليها عندما رأي الشجرة الصغيرة ؛ تفاؤلا بها واعجابا. كان جدي الفتى الصغير يعتقد أنها كبرت بعنايته بها وسُقياها اليومية , لا يعرف أنها يوما بعد يوما كانت تدب جذورها عروقا ترتوي من شريان النيل العظيم.
خطوط امتدت داخلي مع مراقبتي اليومية لها , صفصافة بيتنا الكبيرة كانت مدونتي الخاصة ؛ بكثافة أوراقها دونت فصولي , وانعكاسات ضوء ظلالها على جذعها العتيق كانت تدوين أوقاتي. أوراقها الصغيرة المتساقطة خريفا كنت ألملمها في طفولتي توّ عودتي من المدرسة , أجمعهم في جانب وأرصّهم أهراما صغيرة حتى قبل أن أخلع المريلة الرمادي وحذائي الأسود المتسخ, غير عابئة بصراخ أمي ونداءاتها للغداء. نفس الشقاوة التي مكنتني من تسلق فروعها لتعليق الزينة والكهارب بين شعورها يوم قراءة فاتحة سمر , في ليلة من أجمل ليالي العائلة حيث كانت نساءها الصغيرة أميرات في أجمل صورهم.
كانت صفصافتي هي رفيقة ساعات عصاري الخلوة والقراءة بينما الجميع نيام,كانت تحتضني في وهج ثرياتها , تضوي ذهب شمس العصاري على أوراقها وهي تراقص نسمات أوائل الصيف الحنونة , بينما أقلب على إثرها صفحات رواياتي.الأمر الذي تحول لطقس من طقوس مذاكرتي أثناء الجامعة والماجستير , وإن قضيت معظمه منصتة لحوارات العصافير , متأملة لطوابير النمل المتدفقة على أغصانها وجذوعها عبر آلاف الطرق التي كست لحاءها يوما بعد يوم.
جذعها النديّ سند قلبي وردد دقاته وأنا أقرأ أولى رسائل الحب خُفية تحت ليالي الشتاء المقمرة , وأشتم رحيق صباي.
كنت أتلهف رؤيتها في أبهى صورها وقد غسلت المياه أغصانها ورققت من ملمسها , وقد عزفت قطرات المياه المنسدلة من أغصانها المبتلة أعذب الأصوات, أشاهدها من نافذتي وأنا في دفئ الدثار صبيحة ليلة راعدة وفجر ممطر.
تحت عريشها كنت أحكي مع صديقاتي مغامرات أيام الصيف ونحن نحتسي زجاجات الكوكا كولا ليلا من كشك عم فضل الذي كنا نتسكع عنده بعد المدرسة. ظلت محل إجتماعاتنا لسنوات وإن تباعدت فتراتها, وإن تبدل حضن جذعها الخشن بكراسي المامبو. كانت شاهدا على سمراتنا وضحكاتنا بعد حفلات الساقية التي كنت أتشبث بها بآخر عربات قطار شباب لم أخرج منه سوى بالتعليم الجيد والوظيفة المرموقة وحياة يسِره.
غدا نبيع البيت , بالأرض , بالحديقة , بالصفصافة , بالشارع , بالزمالك , بالنيل , بالساقية , بالكُشك ,بالطفولة والصبا والذكريات. نبيع معه العائلة , نبيع ليلة قراءة فاتحة سمر , وأعياد ميلاد عمر, نبيع جَمعَة السفرة , وإفطار الجُمعة.
كل واحد يأخذ نصيبه. هكذا اتفقت سمر كبرانا مع عمر الذي يكبرني بعامين عما سيفعلونه بميراثنا , فليس لضغراهم أن تقف في طريق حياتهم وحياة أبناءهم.
عمر حصل على تأشيرة أمريكا , سيأخذ نصيبة من الفلوس ويبدأ بها هناك في أرض أحلامه ويربي ابنه ويعلمه تعليم ينفعه. سمر ستأخذ الفلوس وتعطي إبنتها جزءا منها تشارك به زوجها في شراء دوبلكس في أكتوبر, يكون أقرب لعملهما وأكثر اتساعا من بيتنا الذي ضاقوا به.
المقاول سيشتري البيت بأرضه , سيخلعوا عن البيت ستره ويبدأوا بالشجرة , كم هي ضخمة على الإجتثاث أو الخلع , لعلهم سيقطعوا فروعها المتهدلة أولا , ويبتروا جذعها وينفوا رفاتها في مكان ما , ثم يقتحم أحد اللوادر جدران بيتي وعواميده حتى يجهز عليه عمالهم طرقا وهدما , طابقا تلو طابق. ماذا يعنيني في ذلك ... أنا سآخذ نصيبي .. وأشتري به نصيبي من الغربة.

No comments:

Post a Comment